السبت، 30 ديسمبر 2017

مقترحات عملية لمعالجة الأزمة... و خطة عاجلة لانتشال الاقتصاد الوطنى



 كتب / محمد شهدى سلطان
تخفيض «عجز الموازنة » .. ترشيد الاستيراد .. ضغط الإنفاق .. رفع معدلات الادخار ..النهوض الصناعة .. إنشاء لجنة «تخطيط الاستراتيجى» تضم وزراء المجموعة الاقتصادية و محافظ البنك المركزى تشارك فى وضع الرؤية العامة و تنفيذها .. إعادة النظر فى وجود شركات الصرافة التى سُمح بها لمجاملة الخارجين على القانون من تجار العملة


عانت مصر من تدهور اقتصادي شديد منذ عام 2011 مما رفع معدلات البطالة التي كانت مرتفعة أصلا. وأثر ذلك سلبا على مستويات المعيشة لأغلبية الشعب المصري. وقد شهد الاقتصاد المصري مؤخرا وضعا منذرا بالخطر مع حدوث انخفاض كبير في الاحتياطيات من النقد الأجنبي الأمر الذي انعكس في شكل انخفاض مستمر وسريع في قيمة الجنيه خلال الشهور القليلة الماضية. ومن ثم فلن يجد نفعا استمرار سياسة الاقتراض أو الحصول على المنح لضخها في الاحتياطي ثم استنزافها بشكل سريع والعودة لمد اليد لدول عربية أو أجنبية أو مؤسسات دولية مرة أخرى. وبديهي أن الاعتماد على الخارج بالاقتراض أو تلقي المنح له تأثير سلبي على الاستقلال الوطني وعلى المكانة الإقليمية لمصر كدولة قائدة في إقليمها، فليست هناك دولة قائدة تعيش بشكل مستمر على القروض والمنح.

ووفقا لبيانات البنك المركزي المصري بلغت قيمة الديون الخارجية لمصر في نهاية عام 2015 نحو 48٫1 مليار دولار، مقارنة بنحو 43,2 مليار دولار في نهاية عام 2013، ونحو 34٫4 مليار دولار نهاية عام 2012، ونحو 34٫9 مليار دولار في نهاية عام 2011. أما الديون الداخلية فبلغت 2259,4 مليار جنيه في سبتمبر 2015، مقارنة بنحو 2259,4 مليار جنيه مصري في نهاية سبتمبر عام 2015، مقارنة بنحو 1816٫6 مليار جنيه في منتصف عام 2014، ونحو 1527٫4 مليار جنيه في منتصف عام 2013، ونحو 1238٫1 مليار جنيه في منتصف عام 2012، ونحو 1044٫9 مليار جنيه في منتصف عام 2011، ونحو 888٫7 مليار جنيه في منتصف عام 2010.

كما شهدت البلاد أيضا ضربة قوية لقطاع السياحة (باعتباره ثالث أهم مورد للنقد الأجنبي بعد الصادرات وتحويلات العاملين) تمثلت في سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء، حيث تعد السياحة الروسية هي أهم مصادر الإيراد السياحي في مصر خاصة خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، وما ترتب على ذلك من آثار سلبية على السياحة الأوروبية خصوصا والسياحة إلى مصر عموما. وكانت الإيرادات السياحية لمصر قد بلغت نحو 10٫6 مليار دولار عام 2010/2011، ونحو 9,4 مليار دولار عام 2011/2012، ونحو 9٫6 مليار دولار عام 2012/2013، ونحو 5,1 مليار دولار عام 2013/2014، وعادت للارتفاع بقوة إلى 7٫4 مليار دولار عام 2014/2015. لكن حادث تفجير الطائرة الروسية سيؤثر سلبيا وبقوة على الإيرادات السياحية في العام المالي 2015/2016.

ومع ما تشكله هذه التطورات من عبء يتبدى في صورة أزمة حادة في ميزان المدفوعات المصري، وأزمة في إدارة سعر الصرف. يرى البعض أن الأزمة الراهنة ربما تتشابه إلى حد ما مع وضع الاقتصاد المصري بعد يونيو عام 1967 وأثناء حرب الاستنزاف مع إسرائيل. ومع الوضع في الاعتبار أن هناك بالفعل حربا حقيقية تجري مع قوى الإرهاب، وتعرض المجتمع لأخطار وجودية فرضتها عليه هذ القوى، فإن الوضع يقتضي ليس أقل من تبني اقتصاد الحرب للتعامل مع هذه الأزمات والمخاطر.

ومن الطبيعي أن الوضع الاقتصادي المعقد يقتضي التدخل على أكثر من جبهة بحكم تشابك القطاعات والعلاقات الاقتصادية، ونعرض هنا لما يمكن أن يكون خطة إنقاذ عاجلة على المدى القصير والمتوسط (عام إلى ثلاثة أعوام) بحيث يتم في أعقابها انطلاق الاقتصاد المصري على أسس أكثر صلابة.

ونشير إلى أن هذه الخطة تنصرف إلى معالجة كل من الوضع الحالي المتمثل في أزمة النقد الأجنبي وتدهور سعر صرف الجنيه المصري، كما تتعرض إلى بعض القطاعات والمشكلات التي ترتبط بهذه الأزمة وأزمات الاقتصاد ككل بما يتضمنه من قطاعات وعلاقات.

وبداية ربما يكون من باب إخلاص النوايا والضمير فإننا نشير إلى إحساسنا بعدم وجود إدارة موحدة وحازمة للاقتصاد الوطني. وربما يتبدى هذا في ظهور ما يشي بغياب التنسيق بين الجهات المسئولة عن إدارة الاقتصاد القومي بين الحين والآخر.

وفي هذا الصدد ندعو إلى ضرورة التفكير في إنشاء لجنة وزارية تضم وزراء المجموعة الاقتصادية إضافة إلى محافظ البنك المركزي وبحيث يكون عمل الوزراء هو المشاركة في وضع الرؤية العامة ثم تنفيذ ما يتم وضعه من خطط واستراتيجيات في مجال عمل كل وزارة استنادا إلى لجنة من الخبراء تضم أشخاصا على درجة عالية من الكفاءة ومتفرغين لوضع هذه الخطط والاستراتيجيات. إذ في هذه الحالة يمكن رسم أدوار مختلفة لكل كيان من هذه الكيانات الوزارية وغيرها ولكن في إطار منظومة واحدة. ونزعم أن مجرد التنسيق والتفاهم والاستناد إلى خطط واستراتيجيات محددة يتم وضعها ومناقشتها من قبل ما يمكن أن نطلق عليه "لجنة التخطيط الاستراتيجي" قد يشكل في حد ذاته قفزة كبيرة على الطريق نحو حل المشكلات الاقتصادية في مصر مقارنة بما نستشعره في الوقت الراهن من غياب للتنسيق، بل والتضارب أحيانا.

كيف تواجه مصر أزمة تدهور الاحتياطيات والسياحة؟

لابد في البداية من الإشارة إلى أن البنك المركزي سواء في عهد رامز او في الوقت الراهن برئ من أزمة النقد الأجنبي الناجمة عن عجز في الإنتاج والصادرات، والاستيراد بلا ضوابط أو مراعاة للمتاح من النقد الأجنبي. وفي مواجهة الأزمة الراهنة المتمثلة في تدهور الاحتياطيات من النقد الأجنبي وانخفاض سعر صرف الجنية وتدهور الإيرادات السياحية نقترح الخطوط العريضة التالية بشكل عاجل:-

في إطار عضوية مصر في منظمة التجارة العالمية، وطبقا للمادة 18 من اتفاقية الجات تستطيع البلد في حالة مرورها بأزمة اقتصادية شديدة اتخاذ ما يلزمها من تدابير لتقليل بعض الواردات بالاتفاق مع الشركاء التجاريين ولأجل محدد المدة. ونشير فقط إلى أن مجرد خفض نسبي قدره 10% من إجمالي قيمة الواردات يعني إمكانية توفير ما يقرب من 6٫5 مليار دولار وهو رقم ضخم في ظل الأوضاع الراهنة.

لا بد من التعامل مع الجنيه باعتباره رمزا للهوية الوطنية في المجال الاقتصادي ووضع سياجات للدفاع عنه عند السعر الذي يحقق أهداف السياسة الاقتصادية. ومن المفيد أن يتسم هذا السعر بالاستقرار كضرورة لتشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية التي تؤسس بناء على حسابات مستقبلية، علما بأن الجنيه المصري مقدر بأقل من قيمته الحقيقية في الوقت الراهن بصورة يمكن أن تساعد بقوة على زيادة الصادرات إذا كنا ننتج ما يمكن تصديره. ويمكن أن تساعد أيضا على جذب الاستثمارات الأجنبية إذا توفر الأمان وتسهيل الإجراءات والشريك المحلي العادل. ويمكن أن تساعد على جذب السياح إذا توفر الأمن بصورة تحظى بالثقة عالميا.

ووفقا لبيانات البنك الدولي في تقريره عن مؤشرات التنمية في العالم (2015) فإن قيمة الناتج القومي الإجمالي طبقا لسعر الصرف بلغت 273٫1 مليار دولار عام 2014، بينما بلغت قيمته وفقا لتعادل القوى الشرائية نحو 919٫2 مليار دولار. وهذا يعني أن سعر الصرف المثالي القائم على تعادل القوى الشرائية هو دولار واحد= 2 جنيه مصري

ونشير هنا إلى مبدأ حاكم معمول به في كل بلدان العالم وهو مبدأ سيادة العملة الوطنية على أرضها. وهذا يعني عدم استخدام أي عملة أخرى في تسوية التعاملات داخل مصر، ومن يريد أن يقوم بأي تعاملات مالية داخل مصر فعليه تغيير العملة التي أودع أمواله بها إلى الجنيه المصري أولا. ووفقا لهذا المنظور فإنه لا يجوز لأي كان أن يسحب أمواله بعملة أجنبية وإنما يسحبها بعد تحويلها للجنيه المصري من البنك، إلا إذا كانت تتعلق بمصروفات السفر للخارج في حدود معينة يحددها البنك المركزي، ويلزم من حصل عليها بإثبات خروجها معه على جواز سفره عند السفر للخارج. وفي حالة تمويل واردات من الخارج فإنها تتم عبر التحويل للخارج من خلال البنك وطبقا للاعتمادات المفتوحة للاستيراد. ومن هنا فلا بد من التدخل الحازم لوقف سحب الأموال المودعة بأي عملة إلا بعد تحويلها للجنيه المصري، ووقف أية مدفوعات تتم بالنقد الأجنبي مقابل السلع والخدمات داخل السوق المصري.

على ضوء النقطة السابقة يصبح من الضروري إعادة النظر في وجود شركات الصرافة التي تم السماح بها لمجاملة الخارجين على القانون من تجار العملة في السوق السوداء قبل عام 1991 سواء كانوا من الإخوان أو السلفيين أو المنتمين لعصر الفساد الكبير في زمن حكم مبارك. ويمكن للبنوك أن تتدبر أمر توفير خدمة تحويل العملات لما بعد أوقات العمل الرسمية.

هناك ضرورة لتغيير التفكير في الآلية التي يتدخل بها البنك المركزي في سوق الصرف والتي باتت تستند إلى طرح مزادات معلن عنها وعن قيمتها بالدولار الأمريكي. فلا بد من أن يكون التدخل بشكل غير معلن عنه، مع تنويع في الأدوات والوسائل التي يمكن التدخل من خلالها في سوق العملة، وذلك على غرار ما تفعله البنوك المركزية في الدول المتقدمة والنامية. أما الإعلان عن التدخل وقيمته فيجعل الانتهازيين يستحوذون على ما يتم ضخه في السوق ليبقى الحال على ما هو عليه.

بالنسبة لقطاع السياحة وما يعانيه من مشكلات، فينبغي التوجه في الأجل القصير للشركات السياحية الروسية بشكل مباشر لتحقيق أمرين: الأول هو إنهاء سيطرة الشركات التركية على جانب مهم من السياحة الروسية لمصر حيث تعمل كوسيط بين الطرفين. وتحصل تلك الشركات (التركية) على جانب كبير من عائد السياحة الروسية في مصر. والثاني هو العمل على اجتذاب السياح الروس مرة أخرى على ضوء التوقف الفعلي لتدفق السياحة الروسية البالغة 4,5 مليون سائح لتركيا بعد أزمة إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية في سورية. ويمكن الاعتماد في هذا التوجه على التعاون الأمني مع روسيا بحيث يعلن الطرفان أن الرحلات السياحية الروسية لمصر تتمتع بأعلى معايير الأمان بالتنسيق بين الطرفين المصري والروسي. وهذا سيشجع السياح من بلدان أخرى على العودة بكثافة إلى مصر. كما يمكن الاعتماد إلى جانب ما سبق على خطاب وحدة الموقف والشراكة المصرية-الروسية من أجل انتصار ثقافة الحياة في مواجهة الإرهاب. وفضلا عن كل ذلك ينبغي التأكيد على عناصر التميز التي تتمتع بها السياحة في مصر.

من الضروري أن يعتمد الترويج السياحي على التواصل المباشر مع التجمعات الكبيرة مثل النقابات العمالية والمهنية في الخارج لأنها مورد رئيسي للسياحة. وتقديم سلسلة خدمات محترمة وتوضيح كافة التفاصيل الخاصة بالرحلات إلى مصر والالتزام بذلك مع تلك الجهات.

من المهم الاستفادة من تدهور العلاقات الروسية-التركية، وما ترتب على ذلك التدهور من إيقاف روسيا لاستيراد قائمة طويلة من السلع التركية وبالذات السلع الزراعية كالخضر والفاكهة. فهذا الإيقاف يقدم فرصة للصادرات المصرية المناظرة من الخضر والفاكهة لدخول السوق الروسية وزيادة الصادرات إليها وتحسين الميزان التجاري مع روسيا، شرط أن تكون المنتجات الزراعية المصرية مطابقة للاعتبارات الصحية ولا تستخدم المبيدات أو المخصبات إلا في الحدود الآمنة صحيا بالمعايير الأوروبية. وللعلم فإن مصر لم تنجح في استغلال فرصة مناظرة عندما قامت الدول الأوروبية بفرض عقوبات اقتصادية ضد روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية وردت روسيا بوقف بعض وارداتها من الدول الأوروبية، ولم تتمكن مصر من الدخول على خط الأزمة وتزويد روسيا بالسلع المناظرة المتاحة لديها وبالذات من الخضر والفاكهة. وهذه الخبرة السلبية تعني أنه على مصر أن تتحرك بشكل سريع وفعال ومرن هذه المرة.

وبالنسبة للمشكلات الاقتصادية المصرية التي تنعكس أثارها على كافة قطاعات الاقتصاد والمجتمع، ربما يكون عجز الموازنة العامة للدولة من أهم هذه المشكلات، خاصة مع وصول هذا العجز إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا العجز المزمن هو المسئول عن تعملق الدين الداخلي وفوائده الهائلة والتزايد السريع للدين الخارجي مؤخرا بكل الآثار الاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية لتزايد هذا الدين.

كيف نواجه مأزق عجز الموازنة العامة للدولة؟

نشير هنا إلى عدد من الإجراءات الضرورية للمساهمة في معالجة عجز الموازنة العامة للدولة بصورة فعالة:-

في جانب الإنفاق ينبغي التأني في تنفيذ المزيد من المشروعات القومية الكبرى على المدى القصير والمتوسط، فهناك طاقة حمل لأي اقتصاد. والاقتصاد المصري ليس في طاقته الآن تنفيذ كافة ما يعلن عنه من مشروعات قومية كبرى كمشروع العاصمة الإدارية مثلا. وحتى لو قيل أن التمويل يأتي من المواطنين عبر شراء العقارات المنشأة فيها فإنه في النهاية يقتطع من الطاقة الإجمالية للادخار والاستثمار في المجتمع. ولابد من وضع جدول أولويات للمشروعات الأكثر حيوية من منظور خلق الوظائف الجديدة وزيادة الإنتاج السلعي الضروري للاستهلاك المحلي ليغنينا عن الاستيراد، والقابل للتصدير أيضا لتحسين الميزان التجاري في كل الأحوال.

وربما يكون التوجه لبناء مدن صناعية صغيرة ومتكاملة الخدمات في مناطق وجود الخامات المعدنية والمحجرية أكثر جدوى. ويذكر أن ماليزيا في عام 1997 عندما تعرضت لأزمة اقتصادية كالتي تتعرض لها مصر حاليا، أوقفت مشروعات البنية الأساسية الجديدة وقامت بترشيد الواردات وتثبيت سعر صرف الرينجيت الماليزي بصورة مؤقتة ونجحت خلال عامين في استعادة توازنها المالي والنمو الإيجابي السريع لاقتصادها.

لا بد من محاولة ضغط وترشيد الإنفاق في بعض الجوانب المهمة مثل دعم الطاقة. وصحيح أن انخفاض أسعار النفط ومشتقاته قد أدى إلى تقليل حجم دعم الطاقة، لكن ذلك لا ينبغي أن يوقف خطة ترشيد دعم الطاقة وضمان وصوله لمستحقيه فقط. وفي هذا السياق لا بد من التفكير في تفعيل الكروت الذكية مرة أخرى لتقليص دعم البنزين والسولار وجعله مرتبط بالاستخدامات الضرورية وفقط، وما عدا ذلك يكون بالأسعار المرتبطة بالتكلفة الحقيقية.

بالنسبة لبند الأجور في الإنفاق العام للدولة، يلاحظ وجود بطالة مقنعة كبيرة في الجهاز الحكومي والهيئات الاقتصادية والقطاع العام أدت إلى تضخم بند الأجور، خاصة مع محاولات تحسين أجورهم لتكفي لأي حد أدنى من حياة كريمة. ولإيقاف هذا التضخم تدريجيا لابد من إيقاف التعيينات في الدولة إلا لأعداد من الخريجين المتفوقين في حدود 10 آلاف سنويا. ومع خروج ما يتراوح بين 200 ألف إلى 300 ألف عامل وموظف للمعاش سنويا ستتراجع الأعداد المتضخمة في العاملين (البطالة المقنعة) لدى الدولة وبالذات في المحليات. وحتى لو تم تحسين أجور الباقين منهم، فإن مخصصات الأجور وما في حكمها ستتراجع بقوة وتخفف العبء عن الموازنة العامة للدولة. ولابد أن يترافق ذلك مع تحديث ورفع معدلات الميكنة والتدريب والكفاءة في الجهاز الحكومي والهيئات الاقتصادية والقطاع العام.

هناك تضخم في العمالة ببعض القطاعات في الدولة بينما تشكو قطاعات أخرى من نقص في عدد العاملين. ومن هنا لابد من إعادة توزيع العمالة الحكومية بين القطاعات والهيئات المختلفة بعد توفير تدريب تحويلي مناسب، مع تحديث ورفع معدلات الميكنة، بحيث لا تعود هناك حاجة لتعيين المزيد من العاملين بالحكومة والهيئات العامة ولإنهاء الدائرة الجهنمية لتكديس البطالة المقنعة في الجهاز الحكومي والهيئات الاقتصادية، وحتى يكون العمل على حل مشكلة البطالة من خلال خلق فرص عمل حقيقية وليس من خلال زيادة البطالة المقنعة.

في جانب الإيرادات يشار إلى ضرورة تطبيق الضرائب التصاعدية، آخذين في الاعتبار أن الحد الأقصى للضريبة على الدخل في مصر بعد تخفيضه ليصبح 22.5% فقط يعد منخفضا بالقياس لكل البلدان المتقدمة والنامية تقريبا بما في ذلك البلدان الأكثر جذبا للاستثمارات الخارجية. ويصل المتوسط العالمي للشريحة العليا للضرائب على دخل الأثرياء إلى قرابة 40%. (45% في الصين، 43% في الولايات المتحدة، 40% في بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، 57% في السويد، 62% في الدانمرك، 50% في اليابان، 40% في كوريا الجنوبية، 40% في جنوب إفريقيا، 37% في تايلاند، 35% في تركيا)

لا بد من التفكير مرة أخرى في إعادة فرض بعض الضرائب مثل الضريبة على أرباح البورصة كما هو مطبق في الدول الرأسمالية المتقدمة والنامية. وإعادة ضريبة الدمغة على التعاملات في البورصة باعتبارها آلية كانت موجودة من قبل وهي أكثر ضمانا للإيراد العام، فضلا عن كونها عامل استقرار في أي بورصة لأنها تهدئ سخونة المضاربات غير المطلوبة في البورصة. وينبغي أن تكون الحكومة أكثر صلابة في مواجهة اعتراضات السماسرة والمضاربين في البورصة ومندوبيهم في الإعلام. والغالبية الساحقة من العمليات التي تجري في البورصة حاليا هي عمليات إتجار بأسهم شركات قائمة ولن يضير الدولة أن ترتفع أسعارها أو تنخفض طالما أن الشركات الحقيقية التي يتم تداول أسهمها تعمل بالفعل ولم يتم إغلاقها.

إصلاح وتحديث آلات ومعدات القطاع العام والنظم الإدارية فيه بما يمكنه من تحقيق أرباح وفائض محول إلى الموازنة العامة للدولة، بدلا من الوضع الراهن حيث تحتاج بعض شركات القطاع العام للدعم من الدولة. وفي موضع لاحق سوف نعالج هذا التطوير بصورة أكثر تفصيلا في إطار استنهاض النمو الاقتصادي.

فرض ضرائب على استنزاف الموارد الطبيعية، حيث أن عائدات الدولة محدودة للغاية ولا تتناسب مع الأرباح التي يحققها المنتجون الذي يستخرجون أو يستخدمون هذه المواد، علما بأن بعض هذه المواد يعد الأفضل عالميا من حيث النوعية مثل خامات الحجر الجيري والتلك والرمل الزجاجي. وينبغي التأكيد على ضرورة تصنيع تلك الخامات محليا لخلق فرص العمل ورفع القيمة المضافة والناتج.

تمويل التنمية وإنعاش النمو الاقتصادي ومكافحة البطالة والفقر

تعاني مصر من تدني معدل الادخار مما يجعل أي عملية تنموية مرتبطة بالاقتراض الداخلي أو الخارجي وخلق مأزق جديد للاقتصاد. ويعود ذلك بصورة أساسية إلى المدخرات السلبية للحكومة والتي تجهز على المدخرات الإيجابية للقطاعين العائلي والخاص وتؤدي إلى تدني معدل الادخار في مصر إلى واحد من أسوأ المستويات في العالم. وقد بلغ معدل الادخار المحلي في مصر وفقا لبيانات البنك المركزي المصري نحو 4٫7% من الناتج المحلي الإجمالي في النصف الثاني من عام 2014، مقارنة بنحو 21% في المتوسط العالمي، ونحو 24% في الدول الفقيرة، ونحو 30% في دول الدخل المتوسط، وأكثر من 40% في بلدان الشرق الأقصى، ونحو 52% في الصين. ويعد رفع الإدخار الإجباري أحد أهم السبل لرفع معدل الادخار لتوفير المدخرات اللازمة لتمويل التنمية. ورفع الادخار الإجباري يتم من خلال رفع نسبة التأمينات من الأجر الأساسي للعاملين لدى الدولة والقطاع الخاص، أو تطبيق النسب الحالية على الأجر الشامل أي الأجر وما في حكمه وليس على الأجر الأساسي وحده. وبقدر ما سيؤدي ذلك إلى رفع معدل الادخار بشكل كبير، فإن سيؤدي أيضا إلى رفع الأجر التأميني وزيادة المعاشات لمن سيدفعون هذه التأمينات الأعلى في قيمتها ونسبتها.

تصميم مشروع قومي للتدريب والتشغيل لأن هذه القضية تعد قنبلة موقوتة داخل المجتمع المصري ولها تأثيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتشعبة. وهذا المشروع يبدأ بحصر حقيقي للعاطلين ومؤهلاتهم وتوزيعهم الجغرافي في محافظات مصر وذلك لبناء قاعدة بيانات حقيقية يمكن الانطلاق منها لإدراك حجم المشكلة ومعالجتها.

ينبغي أن توضع خطة عملية وفورية لتشغيل وتطوير شركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام المتوقفة أو التي تعمل بجزء من طاقتها الإنتاجية. وهذا الأمر سيحتاج لضخ تمويل كبير لتلك المشروعات لتحديثها كليا. لكن ذلك التحديث سيتكفل برفع عائد العمل ورأس المال وتحقيق أرباح من النشاط يعفي الدولة من الاضطرار سنويا لتقديم منح وإعانات لتلك المشروعات. بل إن تلك المشروعات يمكن أن تتحول إلى تقديم فائض محول إلى الموازنة العامة للدولة.

وليس هناك مانع مبدأي من قيام تلك الشركات باستغلال بعض قطع الأراضي المرتفعة الثمن المملوكة لها في أنشطة عقارية شريطة أن يتم الاستفادة من عائد تلك الأنشطة في انعاش النشاط الصناعي الأساسي لتلك الشركات عبر تحديث وتطوير الآلات والنظم الإدارية. ويمكن حتى لبعض الشركات أن تنتقل كليا إلى مواقع جديدة في المدن الصناعية الجديدة مع استغلال أراضيها القديمة في مشروعات سكنية تدر عليها عائد يمكنها من تمويل التطوير والتحديث.

وعلى سبيل المثال فإن شركة طنطا للكتان المقامة على 83 فدان في منطقة ميت حبيش بطنطا على بعد 50 مترا من طريق القاهرة-الإسكندرية الزراعي، يمكن أن تستغل نحو 16 فدان أي 67200 متر في أنشطة عقارية ومعارض سلعية ومناطق ترفيهية وتحقق عائد هائل من ذلك يستخدم في تطوير وتحديث الآلات والمصانع بصورة مهمة. بل ويمكن نقل المصانع إلى مدينة صناعية جديدة مع بناء مساكن ومؤسسات خدمية تعليمية وصحية للعمال الذين سينتقلون إلى تلك المدينة وإخلاء مكان المصانع القديمة كليا واستغلاله في مشروعات سكنية وتجارية وإدارية واستخدام العائد في تمويل عملية التحديث والانتقال للمصانع.

ربما يكون من المفيد أن يتم تطوير وزارة الاستثمار وقطاع الأعمال العام. فالمطلوب أن تعمل هذه الوزارة بمنطق التحديث والاستنهاض والإصلاح للقطاع العام وليس تصفيته أو إبقائه راكدا. ويكون منح التراخيص إجمالا وتخصيص الأراضي للاستثمار الصناعي والخدمي والزراعي تحت ولايتها. ومع تأسيس أي مشروع محلي أو أجنبي جديد يكون تحت ولاية تلك الوزارة على أن تنتقل الولاية بعد بدء إنتاج تلك المشروعات إلى وزارة أخرى حسب نوع النشاط الزراعي أو الصناعي أو الخدمي. وهذا الأمر سيوفر إمكانية السرعة والمرونة في الحركة والتطبيق العملي الفعال لنظام الشباك الواحد لتسهيل وتشجيع تأسيس الأعمال والاستثمارات.

ضرورة إنشاء هيئة قومية تعمل كحضانة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة والتعاونية. ويجب أن تتمتع تلك الهيئة بدرجة عالية من الاستقلالية وحرية الحركة. ويتم تمويلها من العديد من المصادر: الأول هو ما يخصص لها من الموازنة العامة للدولة. والثاني هو ما تقوم هي بتعبئته من المجتمع من خلال التبرعات والزكاة. والثالث هو ما تستقطبه من منح من الدول الأجنبية وخاصة الأوروبية التي لها مصلحة في استيعاب شباب مصر في أنشطة اقتصادية فعالة داخل مصر بما يوقف تيار الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. والرابع هو أموال الصناديق الخاصة التي يتم جمع الأموال فيها بحكم السلطة السيادية للدولة.

وسوف تعمل هذه الهيئة أو الحضانة على إرشاد الراغبين في إقامة مشروعات صغيرة ومتوسطة وتعاونية إلى المجالات التي يمكنهم العمل فيها. والتنسيق بينهم حتى لا ينشئوا مشروعات متشابهة تتنافس حتى الموت. وتوفير التمويل الميسر لتلك المشروعات من التمويل المتوفر لديها. والأكثر أهمية هو ربط تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة والتعاونية بالمشروعات الكبيرة لإنتاج مكونات أو مدخلات لها وضمان التسويق المنتظم والطويل الأجل الذي يكفل لها الاستمرار والتطور. وربط تلك المشروعات أيضا بسلاسل المتاجر الكبرى لضمان تسويق إنتاجها بصورة منصفة. وتوفير رقابة حقيقية للجودة وللمعايير الصحية في السلع التي تنتجها تلك المشروعات كي يمكن تسويقها في الخارج أيضا باتفاقات مع سلاسل تجارية أجنبية.

تملك مصر فرصة حاضرة وفورية لبناء صناعات زراعية صغيرة وتعاونية ومتوسطة لحفظ وتعليب الخضر والفاكهة وتصنيع منتجات الألبان وتدوير المخلفات الزراعية وتصنيع الموبيليا من جريد النخيل في مواقع الإنتاج الزراعي لإنقاذ ما يتلف من هذا الإنتاج في ذروة مواسم الإنتاج. وتشهد تلك المواسم فائضا إنتاجيا كبيرا من الخضر والفاكهة عن حاجة الاستهلاك المحلي وعن طاقة التخزين في الثلاجات وعن التصدير. ويمكن أن تحظى تلك المشروعات على نحو عاجل برعاية الهيئة أو الحضانة القومية للمشروعات الصغيرة والتعاونية والمتوسطة، وذلك ضمن مشروعات أوسع نطاقا لتطوير القطاع الزراعي مثل مزارع الأسماك في البحار المفتوحة، وصناعات الحفظ والتعليب لها، وتحسين سلالات الماشية التي يتم تربيتها بجلب الأبقار الهولشتاين أو الجاموس الإيطالي الأعلى كثيرا في الإنتاجية من اللبن واللحم حيث ثبت إمكانية تأقلمهما على الأجواء في مصر.

يمكن البناء على النجاح الكبير الذي تحقق في تعبئة موارد كبيرة خاصة من القطاع العائلي عند طرح شهادات قناة السويس الجديدة. ونشير هنا إلى إمكانية تكرار التجرية ربما في شكل اكتتابات من قبل الجمهور في بعض المشروعات المهمة مثل مشروعات التنمية التي ستقام في مشروع محور قناة السويس أو لبناء صناعات تحويلية لاستغلال الثروات المعدنية والمحجرية، وعدم ترك الأمر كما هو مطروح للقطاع الخاص الكبير ورأس المال الأجنبي فقط. وقد يقتضي الأمر تدخل الدولة بوجود حصة لها تضمن لها ما يمكن تسميته بالسهم الممتاز أو السهم الذهبي للمحافظة على أموال المكتتبين وضمان وجود رقابة على الإدارة التنفيذية لهذه المشروعات من قبل الأجهزة الرقابية. وقد يكون تدخل وتخارج الدولة هنا مرنا يستند إلى مدى النجاح في تحقيق أهداف محددة وعلى رأسها قضية التشغيل.

حماية الفئات الضعيفة (شبكات الأمان الاجتماعي) وبالذات لغير القادرين على العمل والفقراء فقرا مدقعا. ولابد من البدء في هذا على نطاق واسع إذ يصعب القول بوجود معالجة فعالة لمشكلة الفقر إذا تم على نطاق محدود سواء من حيث العدد أو التوزع الجغرافي. وتشير البيانات الرسمية إلى أن هناك 27% من السكان تحت خط الفقر. ومن الخطوات الإيجابية التي تمت بالفعل أنه تم رفع مخصصات التحويلات الاجتماعية في الموازنتين الأخيرتين إلى ثلاثة أمثال قيمتها قبلهما. لكن الأمر يتطلب خطة عملية لاستيعاب أطفال الشوارع وإنهاء هذه الظاهرة الصادمة لأي ضمير والمفرخة للبلطجة والعنف، وخطة للاستيعاب الاقتصادي للأسر الفقيرة وتمكينهم من مساعدة أنفسهم بالعمل لدى الغير أو لدى أنفسهم في مشروعات صغيرة ضمن المشروعات التي سترعاها الهيئة أو الحضانة القومية للمشروعات الصغيرة. أما كبار السن أو ذوي الإعاقة فلا مناص من استمرار التحويلات الاجتماعية لمساعدتهم بشكل دائم.

ينبغي وضع استراتيجية صناعية جديدة وجادة يمكن البناء عليها بعد ذلك في خطط الأجل الطويل. وهذه الاستراتيجية تهدف في نهاية المطاف إلى معالجة العجز المزمن في ميزان المدفوعات، ومحاولة تحقيق توازن ملموس لهذا الميزان خاصة الشق المتعلق بالميزان التجاري منه الذي يعاني من عجز مروع يصل إلى نحو 38٫8 مليار دولار.

وقد آن الأوان لإعادة الاعتبار لاستراتيجية إحلال الواردات التي تم الافتراء عليها. فهذه الاستراتيجية هي ذاتها الاستراتيجية التي كفلت نجاح بعض البلدان التي تصنف الآن باعتبارها بلدان صناعية متقدمة ككوريا الجنوبية وتايوان على سبيل المثال.

ويمكن الإشارة إلى أن خطيئة تطبيق تلك الاستراتيجية تاريخيا في مصر وعدد كبير من بلدان العالم الثالث هو اقتصارها على إنتاج السلع الاستهلاكية فقط. بحيث بات الأمر في نهاية المطاف هو استيراد كافة مكونات هذه السلع مفككة ثم تجميعها عبر ما يسمى بصناعات "المفك"، وهي علاوة على ضآلة القيمة المضافة المحققة فيها، فإنها تبني صناعات تابعة للخارج. كما انتهت تلك الصناعات أيضا إلى تحميل الميزان التجاري أعباء ربما تكون أكبر مما لو تم استيراد السلع تامة الصنع وفرضت عليها رسوم جمركية مرتفعة.

وتطيبق استراتيجية إحلال الواردات علاوة على أنها عملية وممكنة لأننا في الواقع تحت يدنا بيان تفصيلي بكافة السلع التي يتم استيرادها ويوجد طلب محلي فعال عليها ويمكن التخطيط لإقامة صناعات بديلة على ضوء تلك المعلومات المهمة. ولكن الأكثر أهمية هو الانطلاق في سلسلة التصنيع إلى بقية أجزاء هذه السلسلة أي عدم الاقتصار على إنتاج السلع الاستهلاكية، بل الانتقال إلى إنتاج السلع الوسيطة والمعدات والآلات بما يترتب على ذلك من تطور تكنولوجي واكتساب خبرات ملموسة قد تساهم هي ذاتها في تحول هذه السلع في مرحلة تالية لكي تكون سلع يمكن تصديرها مع اكتساب القدرات التنافسية في إنتاج بعضها. وتمثل قضية التصنيع الطريق الواضح لتوفير فرص عمل لائقة لجموع العاطلين وأغلبهم من الشباب، بل والشباب المتعلم تحديدا، كما أنها هي ذاتها السبيل لتحقيق توازن ما في ميزان المدفوعات وتوفير سياجات دفاعية كافية للدفاع عن سعر صرف العملة المصرية وتدعيم سيادتها على أرضها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق