الجمعة، 28 نوفمبر 2025

رشا العناني: الصحة النفسية ليست رفاهية… بل أساس كل علاقة سليمة وحياة متوازنة

 




في مجتمعٍ تتشابك فيه التحديات الاجتماعية والنفسية، وتزداد فيه الضغوط التي تُثقل أرواح الناس قبل عقولهم، تبرز أسماء استطاعت أن تعيد صياغة طريقها رغم كل الانقطاعات. من بين هذه النماذج تأتي الدكتورة رشا شكري العناني، التي صنعت مسارها بوعيٍ متدرج، وإصرارٍ لا يعرف التردد، ورسالةٍ آمنت بها حتى النهاية.


بدأت رحلتها من كلية الآداب بجامعة عين شمس، قسم اللغة الإنجليزية، قبل أن تبعدها مسؤوليات البيت وتربية الأبناء لفترة عن مسار العمل. لكن هذا الانقطاع لم يكن تعطلًا، بل كان نقطة الهدوء التي سبقت انطلاقتها الأوسع. فحين عادت، دخلت مجال التسويق ثم العلاقات العامة وتعاونت مع جهات محلية ودولية، منها منظمة الكوميسا، واكتسبت خبرات ثرية في التواصل المؤسسي والتعامل مع الوزارات والسفارات، ما صقل مهاراتها ومهّد لمرحلة جديدة تمامًا في حياتها.ومع تراكم الخبرة وتنوع التجارب، بدأت تشعر بنداء داخلي يقودها نحو مجال أكثر قربًا من الإنسان، وأكثر قدرة على التأثير: الصحة النفسية.



فبدأت بعدد من الدبلومات والدراسات المتخصصة، لتكتشف أن هذا الطريق ليس مجرد فضول علمي، بل شغف حقيقي. عندها اتخذت القرار الذي غيّر مسارها: الالتحاق ببرنامج الماجستير، ثم الدكتوراه في الإرشاد الأسري والعلاقات. وبعدها توسعت في دراسة اللايف كوتشينج حتى وصلت إلى مستوى كوتش معتمد PCC، لتجمع بين المعرفة الأكاديمية والمهارات الإنسانية، وتؤسس عيادتها الخاصة.وتؤمن الدكتورة رشا أن العمل في الصحة النفسية لا يبدأ بشهادة، بل بوعي عميق بحساسية الروح الإنسانية.


فهي ترى يوميًا نتائج الأخطاء المهنية حين يلجأ المرضى إلى غير المتخصصين، فيخرجون من جلساتهم أكثر ضياعًا وتعبًا. لذلك تشدد على أن المعالج الحقيقي يبدأ من نفسه، وأن طلبه للعلاج إن احتاج ليس ضعفًا بل مسؤولية، لأن «الناس بيسلّموك روحهم… فلازم تكون مؤهّل بحق».هذا الفهم العميق لطبيعة المهنة منحها قدرًا كبيرًا من التقبل للآخرين، لأنها ترى الوجوه الخفية خلف السلوك، وتفهم ما لا يقوله الناس بقدر ما يفصحون عنه.


ومن هنا تبدأ جلساتها بسؤال واحد: «هل تحب نفسك؟» سؤال قد يبدو بسيطًا، لكنه بوابة إلى رحلة وعي كاملة، تُبنى فيها شخصية أقوى، أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على العلاقات والتوازن. تعتمد في عملها على تحليل الشخصية، كشف نقاط القوة، وضع خطط واقعية للتغيير، وتغذية الصلابة النفسية، وهي تؤمن أن «القليل الدائم أفضل من الكثير المنقطع»، وأن التغيير الحقيقي يبدأ بخطوات صغيرة لكنها ثابتة.

وفي خضم عملها الإنساني، لا تغفل الدكتورة رشا دورها الاجتماعي والوطني. فهي اليوم تشغل منصب أمين العلاقات العامة بحزب مستقبل وطن، وترى أن هذا الدور امتداد طبيعي لمسيرتها المهنية؛ فكل خبرة اكتسبتها—من العلاقات العامة إلى الإرشاد النفسي—تلتقي في نقطة واحدة: خدمة الناس. ومن خلال الحزب تشرف على حملات مجتمعية تمتد من دور الأيتام إلى مبادرات الصحة النفسية، وندوات التوعية الأسرية، وفصول التقوية للأطفال، مؤكدة أن الوعي النفسي لم يعد رفاهية، بل ضرورة تحمي المجتمع من داخله.


ولأن عملها قائم على الأثر، تتوقف كثيرًا أمام اللحظات التي تؤكد لها أنها في الطريق الصحيح؛ كصوت طفل يقول لها أولًا: «أنا بكره بابا»، ثم يعود بعد جلسات ليقول: «أنا بحبه… وهو ليه الفضل عليا». أو زوج يتحدث بصراحة لأول مرة، ليقول: «دي أول مرة أتكلم عن خصوصياتي مع حد». أو حتى شخص يُرسل لها رسالة شكر من المالديف لأنه استعاد حياته من جديد. هذه اللحظات هي—كما تقول—«قيمة الرسالة نفسها».



وترى الدكتورة رشا أن مستقبل الصحة النفسية يجب أن يبدأ من المدارس والجامعات، وأن تأهيل المقبلين على الزواج ضرورة مجتمعية، وأن الشباب يحتاجون إلى ورش عمل حقيقية تساعدهم على فهم أنفسهم وبناء هويتهم بعيدًا عن المقارنات التي فرضتها وسائل التواصل. فالمجتمع أصبح مفتوحًا بشكل يرهق النفسيات، ولا سبيل للخلاص إلا ببناء قوة داخلية متينة، وعلاقات صحية، وتطوير مستمر للذات.

وفي النهاية، تقدّم خلاصة خبرتها الطويلة: «لو محبتش نفسك مش هتعرف توازن حياتك… وعمرك ما هتخرج من دور الضحية غير لما تشتغل على نفسك بجد.»هكذا تبدو رحلة الدكتورة رشا العناني: طريقٌ بدأ بخطوات صغيرة لكن ثابتة، وتعزز بالعلم والعمل، وتوّج برسالة إنسانية واضحة.


إنها واحدة من النماذج المشرفة التي تثبت أن الاجتهاد حين يُصاحبه وعي ورسالة، يصنع أثرًا يبقى… ويكبر.بعد حواري مع الدكتورة رشا العناني، أدركتُ أنني لا أقف أمام مجرد استشارية أو مدرّبة تجيد أدوات مهنتها، بل أمام روح اختارت أن تحمل رسالة، وتؤمن بها، وتمضي فيها رغم صعوبتها.


كانت كلماتها هادئة لكنها حاسمة، بسيطة لكنها عميقة، وكأن كل جملة تحمل طبقة جديدة من الفهم لما نعانيه نحن البشر من ألمٍ نخبّئه خلف ابتسامات معتادة.خرجتُ من لقائي بها على يقينٍ بأن الصحة النفسية ليست بابًا يُطرق عند الانهيار فقط، بل وعيٌ يومي، ومعرفة بالذات، وقدرة على النظر إلى الداخل دون خوف.

وخرجتُ أيضًا بإيمانٍ أكبر بأن وجود نماذج مثلها—تجمع بين العلم والخبرة والصدق—هو ما يمنح هذا المجال قيمته الحقيقية، ويمنح الناس فرصة للشفاء بعيدًا عن العشوائية والتيه.فهي لا تكتب مسيرتها المهنية فحسب، بل تترك أثرًا في كل من يمر ببابها، أثرًا يجعل الإنسان يرى نفسه بوضوحٍ أكبر، ويستعيد طريقه خطوة بعد خطوة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لمدونة أخبار العرب 2013